فصل: بَيَانُ الْغَلَطِ فِي تَسْمِيَةِ التَّمَنِّي وَالْغُرُورِ رَجَاءً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.بَيَانُ الْغَلَطِ فِي تَسْمِيَةِ التَّمَنِّي وَالْغُرُورِ رَجَاءً:

فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ الْغَلَطُ فِي قَوْلِ الْعُصَاةِ وَالْفُجَّارِ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَإِنَّا نَرْجُو رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَقَدْ قَالَ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي». فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَ» وَهَذَا هُوَ التَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيَّرَ الشَّيْطَانُ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ رَجَاءً حَتَّى خَدَعَ بِهِ الْجُهَّالَ.
وَقَدْ شَرَحَ اللَّهُ الرَّجَاءَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 218] يَعْنِي أَنَّ الرَّجَاءَ بِهِمْ أَلْيَقُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَجْرٌ، وَجَزَاءٌ عَلَى الْأَعْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 17، الْأَحْقَافِ: 14 وَالْوَاقِعَةِ: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] أَتَرَى أَنَّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى إِصْلَاحِ أَوَانٍ وَشُرِطَ لَهُ أُجْرَةٌ عَلَيْهَا وَكَانَ الشَّارِطُ كَرِيمًا يَفِي بِالْوَعْدِ مَهْمَا وَعَدَ، وَلَا يُخْلِفُ، بَلْ يَزِيدُ، فَجَاءَ الْأَجِيرُ وَكَسَرَ الْأَوَانِيَ وَأَفْسَدَ جَمِيعَهَا ثُمَّ جَلَسَ يَنْتَظِرُ الْأَجْرَ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ كَرِيمٌ، أَفَتَرَاهُ الْعُقَلَاءُ فِي انْتِظَارِهِ مُتَمَنِّيًا مَغْرُورًا أَوْ رَاجِيًا؟ وَهَذَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْغِرَّةِ.
قِيلَ للحسن: قَوْمٌ يَقُولُونَ: نَرْجُو اللَّهَ وَيُضَيِّعُونَ الْعَمَلَ فَقَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ يَتَرَجَّحُونَ فِيهَا، مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ.
وَكَمَا أَنَّ الَّذِي يَرْجُو فِي الدُّنْيَا وَلَدًا، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَنْكِحْ فَهُوَ مَعْتُوهٌ، فَكَذَلِكَ مَنْ رَجَا رَحْمَةَ اللَّهِ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا وَلَمْ يَتْرُكِ الْمَعَاصِيَ فَهُوَ مَغْرُورٌ. فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا نَكَحَ بَقِيَ مُتَرَدِّدًا فِي الْوَلَدِ يَخَافُ وَيَرْجُو فَضْلَ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْوَلَدِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ عَنِ الرَّحِمِ وَعَنِ الْأُمِّ إِلَى أَنْ يَتِمَّ فَهُوَ كَيِّسٌ. فَكَذَلِكَ إِذَا آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَتَرَكَ السَّيِّئَاتِ وَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ، وَيَرْجُو أَنْ يُثَبِّتَهُ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَيَحْرُسَ قَلْبَهُ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ حَتَّى لَا يَمِيلَ إِلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ كَيِّسٌ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَهُمُ الْمَغْرُورُونَ بِاللَّهِ {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الْفُرْقَانِ: 42].

.مَوْضِعُ الرَّجَاءِ الْمَحْمُودِ:

فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ مَوْضِعُ الرَّجَاءِ الْمَحْمُودِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَحْمُودٌ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي حَقِّ الْعَاصِي الْمُنْهَمِكِ إِذَا خَطَرَتْ لَهُ التَّوْبَةُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: وَأَنَّى تُقْبَلُ تَوْبَتُكَ؟ فَيُقَنِّطُهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ عِنْدَ هَذَا أَنْ يَقْمَعَ الْقُنُوطَ بِالرَّجَاءِ، وَيَتَذَكَّرَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، وَأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ طَاعَةٌ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فَإِذَا تَوَقَّعَ الْمَغْفِرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ فَهُوَ رَاجٍ، وَإِنْ تَوَقَّعَ الْمَغْفِرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.
الثَّانِي: أَنْ تَفْتُرَ نَفْسُهُ عَنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَيَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ فَيُرَجِّي نَفْسَهُ نَعِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّالِحِينَ حَتَّى يَنْبَعِثَ مِنَ الرَّجَاءِ نَشَاطُ الْعِبَادَةِ فَيُقْبِلُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ 1- 2] الْآيَاتِ.
فَالرَّجَاءُ الْأَوَّلُ يَقْمَعُ الْقُنُوطَ الْمَانِعَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَالرَّجَاءُ الثَّانِي يَقْمَعُ الْفُتُورَ الْمَانِعَ مِنَ النَّشَاطِ وَالتَّشَمُّرِ، فَكُلُّ تَوَقُّعٍ حَثَّ عَلَى تَوْبَةٍ أَوْ عَلَى تَشَمُّرٍ فِي الْعِبَادَةِ فَهُوَ رَجَاءٌ، وَكُلُّ رَجَاءٍ أَوْجَبَ فُتُورًا فِي الْعِبَادَةِ وَرُكُونًا إِلَى الْبَطَالَةِ فَهُوَ غِرَّةٌ. كَمَا إِذَا خَطَرَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الذَّنْبَ وَيَشْتَغِلَ بِالْعَمَلِ فَفَتَّرَهُ الشَّيْطَانُ عَنِ التَّوْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَقَالَ لَهُ: لَكَ رَبٌّ كَرِيمٌ فَهَذَا غِرَّةٌ، وَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْخَوْفَ فَيُخَوِّفُ نَفْسَهُ بِغَضَبِ اللَّهِ وَعَظِيمِ عِقَابِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ، مَعَ أَنَّهُ غَافِرُ الذَّنْبِ وَقَابِلُ التَّوْبِ، شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَإِنَّهُ مَعَ أَنَّهُ كَرِيمٌ خَلَّدَ الْكُفَّارَ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَقَدْ خَوَّفَنِي عِقَابَهُ فَكَيْفَ لَا أَخَافُهُ وَكَيْفَ أَغْتَرُّ بِهِ.
فَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ قَائِدَانِ وَسَائِقَانِ يَبْعَثَانِ النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ، فَمَا لَا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ تَمَنٍّ وَغُرُورٌ، وَرَجَاءُ كَافَّةِ الْخَلْقِ هُوَ سَبَبُ فُتُورِهِمْ وَسَبَبُ إِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَسَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِهْمَالِهِمُ السَّعْيَ لِلْآخِرَةِ، فَذَلِكَ غُرُورٌ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُبَالِغُونَ فِي التَّقْوَى وَالْحَذَرِ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَيَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ، وَأَمَّا الْآنَ فَتَرَى الْخَلْقَ آمِنِينَ مَسْرُورِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ مَعَ إِكْبَابِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِكَرَمِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ كَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ يُدْرَكُ بِالْمُنَى وَيُنَالُ بِالْهُوَيْنَا فَعَلَى مَاذَا كَانَ بُكَاءُ أُولَئِكَ وَخَوْفُهُمْ وَحُزْنُهُمْ؟! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إِبْرَاهِيمَ: 14]. وَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ تَحْذِيرٌ وَتَخْوِيفٌ لَا يَتَفَكَّرُ فِيهِ مُتَفَكِّرٌ إِلَّا وَيَطُولُ حُزْنُهُ وَيَعْظُمُ خَوْفُهُ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا.

.بَيَانُ بَعْضِ أَصْنَافِ الْمُغْتَرِّينَ:

فَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ أَحْكَمُوا الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ وَأَهْمَلُوا تَفَقُّدَ الْجَوَارِحِ وَحِفْظَهَا عَنِ الْمَعَاصِي، وَاغْتَرُّوا بِعِلْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ لَا يُعَذِّبُ مِثْلَهُمْ، وَلَوْ نَظَرُوا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ لَعَلِمُوا أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يُرَادُ لِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَعْرِفَةِ أَخْلَاقِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ وَالْمَحْمُودَةِ وَكَيْفِيَّةِ عِلَاجِهَا وَالْفِرَارِ مِنْهَا، فَهِيَ عُلُومٌ لَا تُرَادُ إِلَّا لِلْعَمَلِ، وَكُلُّ عِلْمٍ يُرَادُ لِلْعَمَلِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ دُونَ الْعَمَلِ. وَقَدْ وَرَدَ فِيمَنْ لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ مَا فِيهِ أَشَدُّ التَّرْهِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الْجُمُعَةِ: 5] فَأَيُّ خِزْيٍ أَعْظَمُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْحِمَارِ؟.
وَفِرْقَةٌ أُخْرَى أَحْكَمُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَوَاظَبُوا عَلَى الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَتَرَكُوا الْمَعَاصِيَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَقَّدُوا قُلُوبَهُمْ لِيَمْحُوا عَنْهَا الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَطَلَبِ الْعُلَا وَإِرَادَةِ السُّوءِ لِلْأَقْرَانِ وَالنُّظَرَاءِ وَطَلَبِ الشُّهْرَةِ فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، فَهَؤُلَاءِ زَيَّنُوا ظَوَاهِرَهُمْ وَأَهْمَلُوا بَوَاطِنَهُمْ وَنَسُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» فَتَعَهَّدُوا الْأَعْمَالَ وَمَا تَعَهَّدُوا الْقُلُوبَ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ إِذْ لَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَمِثَالُ هَؤُلَاءِ قُبُورُ الْمَوْتَى: ظَاهِرُهَا مُزَيَّنٌ وَبَاطِنُهَا جِيفَةٌ.
وَفِرْقَةٌ اقْتَصَرُوا عَلَى عِلْمِ الْفَتَاوَى فِي الْحُكُومَاتِ وَالْخُصُومَاتِ وَتَفَاصِيلِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَخَصَّصُوا اسْمَ الْفِقْهِ بِهَا. وَرُبَّمَا ضَيَّعُوا مَعَ ذَلِكَ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ فَلَمْ يَتَفَقَّدُوا الْجَوَارِحَ كَاللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ، وَلَا الْبَطْنَ عَنِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَحْرُسُوا قُلُوبَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَسَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ، فَهَؤُلَاءِ مَغْرُورُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ وَمِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ.
أَمَّا مِنَ الْعَمَلِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَوَّلًا وَجْهَ الْغُرُورِ فِيهِ، وَمِثَالُهُمُ الْمَرِيضُ إِذَا تَعَلَّمَ نُسْخَةَ الدَّوَاءِ وَاشْتَغَلَ بِتَكْرَارِهَا وَتَعْلِيمِهَا الْمَرْضَى وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِشُرْبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا، أَفَتَرَى أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَضِهِ شَيْئًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَلَابُدَّ مِنْ شُرْبِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى مَرَارَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ بَعْدُ عَلَى خَطَرٍ مِنْ شِفَائِهِ.
وَأَمَّا غُرُورُهُ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ فَحَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى عِلْمِ الْمُعَامَلَاتِ وَظَنَّ أَنَّهُ عِلْمُ الدِّينِ، وَتَرَكَ عِلْمَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبَّمَا طَعَنَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ نَقَلَةُ أَخْبَارٍ وَحَمَلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَفْقَهُونَ. وَتَرَكَ أَيْضًا عَلِمَ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ، وَتَرَكَ الْفِقْهَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِدْرَاكِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُورِثُ الْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالْخُشُوعَ وَيَحْمِلُ عَلَى التَّقْوَى، فَإِنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْفِقْهُ عَنِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ صِفَاتِهِ الْمُخَوِّفَةِ وَالْمَرْجُوَّةِ لِيَسْتَشْعِرَ الْقَلْبُ الْخَوْفَ وَيُلَازِمَ التَّقْوَى إِذْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التَّوْبَةِ: 122] وَالَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْذَارُ غَيْرُ هَذَا الْعِلْمِ.
وَفِرْقَةٌ اشْتَغَلُوا بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّكَلُّمِ فِي أَخْلَاقِ النَّفْسِ وَالزُّهْدِ وَالْإِخْلَاصِ وَهُمْ مَغْرُورُونَ يَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَدَعَوُا الْخَلْقَ إِلَيْهَا فَقَدْ صَارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا وَهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْهَا عِنْدَ اللَّهِ لِحِرْصِهِمْ عَلَى السُّمْعَةِ وَحَسَدِهِمْ لِمَنْ يَتَقَدَّمُهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ، وَغَيْظِهِمْ عَلَى مَنْ يُثْنِي عَلَى مُعَاصِرِيهِمْ، وَجَمْعِهِمْ لِحُطَامِ الدُّنْيَا، فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ النَّاسِ غِرَّةً.
وَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِحِفْظِ كَلَامِ الزُّهَّادِ وَأَحَادِيثِهِمْ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا، فَهُمْ يَحْفَظُونَ الْكَلِمَاتِ وَيُؤَدُّونَهَا مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَوْ فِي الْأَسْوَاقِ مَعَ الْجُلَسَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ إِذَا حَفِظَ كَلَامَ الزُّهَّادِ فَقَدْ أَفْلَحَ وَنَالَ الْغَرَضَ، وَصَارَ مَغْفُورًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْفَظَ بَاطِنَهُ عَنِ الْآثَامِ، وَغُرُورُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ مِنْ غُرُورِ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَفِرْقَةٌ اشْتَغَلُوا بِعِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَغَرِيبِ اللُّغَةِ وَاغْتَرُّوا بِهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فَأَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَعْرَضُوا عَنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا، كَمَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ فِي تَصْحِيحِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ غُرُورٌ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا الْحُرُوفُ أَدَوَاتٌ، فَاللُّبُّ هُوَ الْعَمَلُ وَالَّذِي فَوْقَهُ كَالْقِشْرِ لِلْعَمَلِ. فَالْقَانِعُونَ بِهِ مُغْتَرُّونَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَهُ مَنْزِلًا فَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، فَتَجَاوَزَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى لُبَابِ الْعَمَلِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَصَفَّهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْآفَاتِ.

.غُرُورُ أَرْبَابِ الْعِبَادَةِ:

وَهُمْ فِرَقٌ عَدِيدَةٌ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ تَعَمَّقُوا حَتَّى خَرَجُوا إِلَى الْعُدْوَانِ وَالسَّرَفِ، كَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ فِي الْوُضُوءِ فَيُبَالِغُ فِيهِ وَلَا يَرْضَى الْمَحْكُومَ بِطَهَارَتِهِ فِي الشَّرْعِ وَيُقَدِّرُ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةَ قَرِيبَةً فِي النَّجَاسَةِ، وَلَوِ انْقَلَبَ هَذَا الِاحْتِيَاطُ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الطَّعَامِ لَكَانَ أَشْبَهَ بِسِيرَةِ الصَّحَابَةِ؛ إِذْ تَوَضَّأَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ ظُهُورِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَدَعُ أَبْوَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَسَةُ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَدَعُهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَعْقِدَ نِيَّةً صَحِيحَةً عَلَى زَعْمِهِ، وَقَدْ يُوَسْوَسُونَ فِي التَّكْبِيرِ حَتَّى قَدْ يُغَيِّرُونَ صِيغَةَ التَّكْبِيرِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَغْفُلُونَ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَلَا يُحْضِرُونَ قُلُوبَهُمْ وَيَغْتَرُّونَ بِذَلِكَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَيْرٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَفِرْقَةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْوَسْوَسَةُ فِي إِخْرَاجِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ مِنْ مَخَارِجِهَا، فَلَا يَزَالُ يَحْتَاطُ فِي التَّشْدِيدَاتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ وَتَصْحِيحِ الْمَخَارِجِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ غَيْرُهُ ذَاهِلًا عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ وَصَرْفِ الْفَهْمِ إِلَى أَسْرَارِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْغُرُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَحْقِيقِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ إِلَّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي الْكَلَامِ، وَمِثَالُ هَؤُلَاءِ مِثَالُ مَنْ حَمَلَ رِسَالَةً إِلَى مَجْلِسِ سُلْطَانٍ وَأُمِرَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَأَخَذَ يُؤَدِّي الرِّسَالَةَ وَيَتَأَنَّقُ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَيُكَرِّرُهَا وَيُعِيدُهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَهُوَ فِي ذَلِكَ غَافِلٌ عَنْ مَقْصُودِ الرِّسَالَةِ وَمُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْمَجْلِسِ، فَمَا أَحْرَاهُ بِأَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ التَّأْدِيبُ وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِفَقْدِ الْعَقْلِ.
وَفِرْقَةٌ اغْتَرُّوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَيَهُذُّونَهُ هَذًّا وَرُبَّمَا يَخْتِمُونَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً، وَلِسَانُ أَحَدِهِمْ يَجْرِي وَقَلْبُهُ يَتَرَدَّدُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَمَانِي إِذْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لِيَنْزَجِرَ بِزَوَاجِرِهِ وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، وَيَقِفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَيَعْتَبِرَ بِمَوَاضِعِ الِاعْتِبَارِ فِيهِ، فَهُوَ مَغْرُورٌ يَظُنُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْهَمْهَمَةُ بِهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَمِثَالُهُ مِثَالُ عَبْدٍ كَتَبَ إِلَيْهِ مَوْلَاهُ كِتَابًا وَأَشَارَ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَلَمْ يَصْرِفْ عِنَايَتَهُ إِلَى فَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَلَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِهِ، فَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ مَوْلَاهُ إِلَّا أَنَّهُ يُكَرِّرُ الْكِتَابَ بِصَوْتِهِ وَنَغَمَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، وَمَهْمَا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَهُوَ مَغْرُورٌ. نَعَمْ تِلَاوَتُهُ إِنَّمَا تُرَادُ لِكَيْلَا يُنْسَى، بَلْ لِحِفْظِهِ، وَحِفْظُهُ يُرَادُ لِمَعْنَاهُ، وَمَعْنَاهُ يُرَادُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَعَانِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ فَهُوَ يَقْرَؤُهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ، وَيَغْتَرُّ بِاسْتِلْذَاذِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ لَذَّةُ مُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَمَاعُ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّتُهُ فِي صَوْتِهِ فَلْيَتَفَقَّدْ قَلْبَهُ وَلْيَخْشَ رَبَّهُ.
وَفِرْقَةٌ اغْتَرُّوا بِالصَّوْمِ وَرُبَّمَا صَامُوا الدَّهْرَ أَوِ الْأَيَّامَ الشَّرِيفَةَ وَهُمْ فِيهَا لَا يَحْفَظُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْغِيبَةِ، وَخَوَاطِرَهُمْ عَنِ الرِّيَاءِ، وَبَوَاطِنَهُمْ عَنِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْهَذَيَانِ بِأَنْوَاعِ الْفُضُولِ طُولَ النَّهَارِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُظَنُّ بِنَفْسِهِ الْخَيْرَ فَيُهْمِلُ الْفَرَائِضَ وَيَطْلُبُ النَّفْلَ ثُمَّ لَا يَقُومُ بِحَقِّهِ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْغُرُورِ.
وَفِرْقَةٌ اغْتَرُّوا بِالْحَجِّ فَيَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنِ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَاسْتِرْضَاءِ الْوَالِدَيْنِ وَطَلَبِ الزَّادِ الْحَلَالِ، وَقَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَعْدَ سُقُوطِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيُضَيِّعُونَ فِي الطَّرِيقِ الصَّلَاةَ وَالْفَرَائِضَ، وَلَا يَحْذَرُونَ مِنَ الرَّفَثِ وَالْخِصَامِ، ثُمَّ يَحْضُرُ الْبَيْتَ بِقَلْبٍ مُلَوَّثٍ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ لَمْ يُقَدِّمْ تَطْهِيرَهُ عَلَى حُضُورِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.
وَفِرْقَةٌ جَاوَرُوا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَاغْتَرُّوا بِذَلِكَ وَلَمْ يُرَاقِبُوا قُلُوبَهُمْ وَلَمْ يُطَهِّرُوا ظَاهِرَهُمْ وَبَاطِنَهُمْ، فَقُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِبِلَادِهِمْ مُلْتَفِتَةٌ إِلَى قَوْلِ مَنْ يَعْرِفُهُ: إِنَّ فُلَانًا مُجَاوِرٌ بِمَكَّةَ، وَتَرَاهُ يَقُولُ: قَدْ جَاوَرْتُ بِمَكَّةَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُجَاوِرُ وَيَمُدُّ عَيْنَ طَمَعِهِ إِلَى أَوْسَاخِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ فِيهِ الرِّيَاءُ وَجُمْلَةٌ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ كَانَ عَنْهَا بِمَعْزِلٍ لَوْ تَرَكَ الْمُجَاوَرَةَ، وَلَكِنَّ حُبَّ الْمَحْمَدَةِ، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ أَلْزَمَهُ الْمُجَاوَرَةَ مَعَ التَّضَمُّخِ بِهَذِهِ الرَّذَائِلِ فَهُوَ أَيْضًا مَغْرُورٌ.
وَفِرْقَةٌ زَهِدَتْ فِي الْمَالِ وَقَنَعَتْ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ بِالدُّونِ، وَمِنَ الْمَسْكَنِ بِالْمَسَاجِدِ أَوِ الْمَدَارِسِ، وَظَنَّتْ أَنَّهَا أَدْرَكَتْ رُتْبَةَ الزُّهَّادِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَاغِبٌ بِالرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ إِمَّا بِالْعِلْمِ أَوْ بِالْوَعْظِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الزُّهْدِ، فَقَدْ تَرَكَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ وَبَاءَ بِأَعْظَمِ الْمُهْلِكَيْنِ، فَهَذَا مَغْرُورٌ إِذْ ظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الزُّهَّادِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الدُّنْيَا، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ مُنْتَهَى لَذَّاتِهَا الرِّيَاسَةُ، وَأَنَّ الرَّاغِبَ فِيهَا لَابُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا وَحَسُودًا وَمُتَكَبِّرًا وَمُرَائِيًا وَمُتَّصِفًا بِجَمِيعِ خَبَائِثِ الْأَخْلَاقِ. وَقَدْ يُؤْثِرُ الْخَلْوَةَ وَالْعُزْلَةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَغْرُورٌ، إِذْ يَتَطَاوَلُ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِاسْتِحْقَارِ، وَيُعْجَبُ بِعَمَلِهِ وَيَتَّصِفُ بِجُمْلَةٍ مِنْ خَبَائِثِ الْقُلُوبِ، وَرُبَّمَا يُعْطَى الْمَالَ فَلَا يَأْخُذُهُ خِيفَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ بَطَلَ زُهْدُهُ، فَهُوَ رَاغِبٌ فِي حَمْدِ النَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَلَذِّ أَبْوَابِ الدُّنْيَا، وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مَغْرُورٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا لَا يَخْلُو عَنْ تَوْقِيرِ الْأَغْنِيَاءِ وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْمَيْلِ إِلَى الْمُرِيدِينَ لَهُ وَالْمُثْنِينَ عَلَيْهِ، وَالنَّفْرَةِ عَنِ الْمَائِلِينَ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خُدْعَةٌ وَغُرُورٌ مِنَ الشَّيْطَانِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ.
وَفِي الْعُبَّادِ مَنْ يُشَدِّدُ عَلَى نَفْسِهِ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ وَتَفَقُّدُّهُ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَسَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ لِعَمَلِهِ الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِأَحْوَالِ الْقَلْبِ، وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةَ تَتَرَجَّحُ بِهَا كِفَّةُ حَسَنَاتِهِ وَهَيْهَاتَ، وَذَرَّةٌ مِنْ ذِي تَقْوَى وَخُلُقٌ وَاحِدٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَكْيَاسِ أَفْضَلُ مِنْ أَمْثَالِ الْجِبَالِ عَمَلًا بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو هَذَا الْمَغْرُورُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ مَعَ النَّاسِ وَخُشُونَتِهِ وَتَلَوُّثِ بَاطِنِهِ بِالرِّيَاءِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: أَنْتَ مِنْ أَوْتَادِ الْأَرْضِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحْبَابِهِ فَرِحَ الْمَغْرُورُ بِذَلِكَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَظَنَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّاسِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ لِجَهْلِ النَّاسِ بِخَبَائِثِ بَاطِنِهِ.
وَفِرْقَةٌ حَرَصَتْ عَلَى النَّوَافِلِ وَلَمْ يَعْظُمِ اعْتِدَادُهَا بِالْفَرَائِضِ، تَرَى أَحَدَهُمْ يَفْرَحُ بِصَلَاةِ الضُّحَى وَبِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَافِلِ، وَلَا يَجِدُ لِلْفَرِيضَةِ لَذَّةً، وَلَا يَشْتَدُّ حِرْصُهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَنْسَى قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ».